شك مهني؟! مصطلح يبدو للوهلة الأولى مليئا بالريبة والسلبية، لكنه في عالم المراجعة الداخلية حجر أساس، بل هو عدسة تمكن المراجع من اختراق غبار العمليات اليومية والاطلاع على حقيقة أداء المنظمة. فما المقصود بالشك المهني وكيف يمكن تطويره ليصبح سلاحا فعالا بيد المراجع الداخلي؟
يُعرف الشك المهني بأنه حالة من اليقظة والريبة الإيجابية، المبنية على المعرفة والخبرة. لا يعني الشك هنا رفض كل معلومة، بل هو دافع للمراجع الداخلي للتمحيص في صحة المعلومات والافتراضات المقدمة، والبحث عن أدلة تدعمها أو تكشف زيفها. إنه بمثابة مفتاح للكشف عن المخاطر التي قد تغيب عن العين المجردة. من خلال طرح الأسئلة المحفزة، وتقييم فعالية الضوابط الداخلية، وتحليل البيانات بعين ناقدة، يصبح المراجع الداخلي كمنقب عن الكنوز، يبحث عن المخاطر الخفية التي قد تهدد المنظمة.
ولا يقتصر دور الشك المهني على كشف المخاطر فحسب، بل إنه يزيد من دقة المعلومات التي يبني عليها المراجع استنتاجاته. فمن خلال التشكيك في صحة المعلومات المقدمة من الإدارة والمطالبة بالأدلة والوثائق الداعمة، يساهم المراجع في رفع مستوى الاعتمادية والمصداقية في تقاريره، وهو ما ينعكس إيجابا على صحة القرارات الإدارية للتصحيح.
وعلى نحو مماثل، يعزز الشك المهني جودة المراجعة برمتها. فهو يدفع المراجع إلى بذل المزيد من الجهد في تحليل وتدقيق المعلومات، والوصول إلى نتائج موضوعية وموثوقة تسهم في تحسين كفاءة المنظمة وتذكي درجة أعلى من الثقة في عمل المراجعة الداخلية.
إذن، كيف يمكن للمراجع الداخلي أن يطور مهاراته في الشك المهني ويصقلها؟
أولى خطوات التطوير تكمن في اكتساب الخبرة والمعرفة الضمنية والفطنة الإدارية في مجال المنظمة. فكلما تنوعت مجالات وقطاعات العمل التي يطلع عليها المراجع، كلما تعمق فهمه لطبيعة المخاطر المختلفة وكيفية تقييمها. ولا يقل التدريب المستمر أهمية عن الخبرة، حيث تساعد البرامج المتخصصة في مجال المراجعة الداخلية وتطوير مهارات التحليل والتفكير النقدي على صقل مهارات الشك المهني لدى المراجع.
بجانب ذلك، يعتبر الاطلاع المستمر على آخر التطورات في مجال المراجعة والمعايير الدولية، وكذلك قراءة الحالات والدراسات المتعلقة بالمخاطر والاحتيال، من عوامل إذكاء الشك المهني وتوسيع مدارك المراجع. لكن هذه العوامل لن تؤتي ثمارها دون بيئة عمل داعمة للاستقلالية المهنية. فالمراجعة الفعالة تتطلب أن يتمتع المراجع بحرية طرح الأسئلة الصعبة والملاحظة النقدية دون الخوف من تداعيات على علاقاته أو وضعه الوظيفي. ويعتبر الذكاء العاطفي مكملا في هذه العملية، ولعلنا نتحدث عنه في مقالة قادمة بإذن الله.
ولكن كيف يمكن للمراجع الداخلي أن يمارس هذا الشك الإيجابي بشكل فعلي؟
بداية، على المراجع الداخلي أن يتحلى بالفضول لفهم تفاصيل العمل بدقة، وأن يطرح الأسئلة التي تتجاوز السطح. فكلما زاد فضوله، كلما اكتسب مهارة أكبر في استكشاف المخاطر.
كما يلعب التفكير النقدي دورا محوريا في عملية المراجعة. فالمعلومات المقدمة تبقى مجرد ادعاءات حتى يفحصها المراجع بعين ناقدة، ويقيم مدى صحتها ومنطقيتها، دون أن يقع فريسة للقبول الأعمى.
ويمثل التواصل الفعال مع الإدارة والموظفين كذلك عنصرا أساسيا لجمع المعلومات وفهم طبيعة العمل، وهو ما يساعد المراجع على تحديد مجالات المخاطر المحتملة.
أخيرا، لا بد للمراجع أن يتحلى بالشجاعة الأدبية، فلا يتردد في طرح الأسئلة الصعبة وتقديم ملاحظاته النقدية، حتى وإن أزعجت البعض. ففي نهاية المطاف، الهدف هو حماية المنظمة وتعزيز كفاءتها، وهذا لن يتحقق إلا من خلال مراجعة دقيقة وشاملة لا تتوانى عن كشف الحقائق مهما كانت.