في عالم الأعمال المتسارع، تتداخل الأرقام والبيانات مع العلاقات الإنسانية، ويبرز الذكاء العاطفي كمهارة لا غنى عنها للنجاح. الذكاء العاطفي هو القدرة على فهم مشاعرك وأثرها على الاخرين وتسخير ذلك في إدارة التعامل معهم بشكل فعّال!
الحديث عن الذكاء العاطفي ليس ترفا فكريا أو نهجا إداريا اختياريا، بل ضرورة حتمية خاصة للقياديين والمتطلعين لتولي مراكز وظيفية عليا أو أولئك الذين ينشدون التطوير المهني والشخصي.
تفرز التحديات والضغوطات والمتغيرات السريعة، أوضاعا إدارية معقدة وصعبة تتطلب استيعابها من خلال ثقافة تنظيمية تتيح فرصة التعلم وتبادل الخبرات وتمنح الثقة للعاملين للمشاركة والاستفادة من تجاربهم وآرائهم. هذه الثقافة تقوم في أساسها على الذكاء العاطفي والقدرة على فهم النفس والآخرين لبناء شبكة من العلاقات تثمر التعاون والولاء التنظيمي، واتخاذ قرارات تحقق أوضاع مربحة لجميع الأطراف في المنظمة. ويعد المراجع الداخلي أحد تلك الأطراف المهمة في تطوير الأعمال وتخفيف المخاطر ورسم مستقبل المنظمة والأهم أن نشاطه وطبيعة عمله تتقاطع مع جميع الإدارات والمستويات التنظيمية، وهذا يتطلب مهارة تعزيز العلاقة مع أصحاب المصلحة وفهم وجهات نظرهم، والتواصل معهم بفعالية وكسب ثقتهم وإقناعهم بما يفترض أن يكون، والأهم تقبل الطبيعة التداخلية والرقابية للمراجع الداخلي. لذلك يعد الذكاء العاطفي من أهم المهارات التي يجب أن يتحلى بها المراجع الداخلي.
دائما ما يتردد في منتديات المراجعة الداخلية أهمية أن يكون المراجع الداخلي “مستشارا موثوقا” لأصحاب المصلحة. إلا أنه ومن خلال تجربتي في المجال أرى أن ذلك لا يكون إلا من خلال ثلاثة أبعاد أساسية: السمات الشخصية والأخلاقية للمراجع الداخلي، والمعرفة والخبرة الفنية لموضوع المراجعة، والدراية والإلمام بالسياقات الإدارية والوضع القائم وبيئة العمل. واختلالها أو غيابها جميعها أو حتى أحدها يؤثر سلبا في درجة الموثوقية ويشوش الصورة الذهنية لدور المراجع الداخلي. أحد أهم السمات الشخصية التي تذكي الموثوقية في المراجع الداخلي وعمله هي الذكاء العاطفي. فغالبا ما تفرض عمليات المراجعة الداخلية الالتزام والمراجعة الدقيقة وتقييم الأعمال والإجراءات والنتائج في إطار المعايير والأنظمة والأوقات المحددة وتقديم تعليقات وملاحظات مهمة ما يثير بعض الحساسية ومشاعر الاعتراض في بعض الأحيان. هذه الملاحظات والتقييمات يراد لها أن تفيد العمل بطريقة مستدامة وتطويرية وهذا يتطلب قبولها من أصحاب المصلحة والأطراف المعنية. من أجل ذلك يستلزم من المراجع الداخلي أن يرى نفسه كعنصر تغيير إيجابي والعمل على بناء علاقة تكاملية مع الجهات الخاضعة للمراجعة، وفهم وجهات نظرهم، وإرساء ثقافة تعاونية ندية. وهذا بالضبط ما يستهدفه الذكاء العاطفي. هكذا تكون عملية المراجعة أكثر سلاسة وتزيد من احتمالية تنفيذ توصياتها.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن رفع درجة الموثوقية لا يعني – بالضرورة – صنع صداقات وعلاقات شخصية مع أصحاب المصلحة، إنما إرساء أواصر الثقة في نفوس المتلقين بحيث تتضح لهم التوقعات ويدركون المقاصد ويسعون للتعاون ويتفهمون ويتقبلون التقارير وما تحويه من ملاحظات إيجابية وقصور بحس مهني عالٍ!
كما ذكرنا، فإن الذكاء العاطفي يمكّن المراجعين من التواصل بوضوح وإيجاز وتفهم للمقابل. فالمراجع الداخلي ذو الذكاء العاطفي على وعي باختيار الأسلوب المناسب في إيصال رسالته وتوقعاته حسب نوعية المخاطَبين، فالتواصل مع الفنيين والمهندسين – على سبيل المثال – يختلف عن التواصل مع الإدارة التنفيذية أو مجلس الإدارة. هذا الحس والاستشعار بالحديث مع كل طرف حسب اللغة التي يفهمها واهتماماته ومحاذيره وتطلعاته أجدى في تحقيق المبتغى والوصول إلى النتائج المطلوبة، حتى لو كانت الملاحظات تتضمن جوانب معينة لا يريد المسؤول أو الموظف سماعها. وهو أمر طبيعي فالنفس جبلت على قبول الإيجابيات والنفور من الانتقادات وإبراز مواطن الخلل. ولذا يتأكد على المراجع الداخلي مرة أخرى أن يكون قادرا على إيصال المعلومات بوضوح ودقة، والإنصات إلى ملاحظات أصحاب المصلحة إنصاتا فاعلا لفهم مشاعرهم وما يدور في أذهانهم، والتواصل معهم بفاعلية.
لا شك أن عمليات المراجعة الداخلية تنطوي على التعامل البشري المباشر خصوصا أثناء العمل الميداني أو عند مناقشة التقارير، مما قد ينتج عنه في بعض الأحيان تباينا في وجهات النظر يصل حد الخلاف أو قد يقود إلى المقاومة ما يستلزم إدارة الصراعات بشكل بناء. وهذا يتطلب من المراجع الداخلي أن يكون قادرا على فهم أسباب النزاع، والتوصل إلى حلول إبداعية توفق الرؤى وتجمع الأضداد في سبيل تحسين أداء المنظمة وتجنيبها المخاطر والحفاظ على قيمتها المؤسسية. لذا كان من أهم الأدوار التي على المراجع القيام بها الإنصات الفاعل لتحديد المخاوف الأساسية لدى الأطراف الأخرى وإيجاد الحلول التي تلبي المصالح المشتركة.
ما أطرحه هنا من أفكار من السهل الحديث عنه ولكنه ليس سهل التطبيق، فمجال المراجعة الداخلية ليس للجميع! فبيئتها تتصف بالضغوط والتحديات الإدارية والشخصية، وهي دائمة التغير. ومن الخطأ التعامل بروتينية البيروقراطية الرتيبة في بيئة متقلبة. هذه البيئة الصعبة تحتم على المراجعين التحلي بالذكاء العاطفي مما يسمح لهم بإدارة ضغوطهم بشكل فعال واستيعاب المواقف بنظرة تحليلية والموازنة بين الموضوعات المهمة وتلك الهامشية ذات التأثير البسيط. ما يسمح بالتفكير بوضوح وإصدار أحكام سليمة وبناء المرونة في المواقف الصعبة.
هذه التحديات التي يواجهها المراجع في التحري والتقويم والتصحيح لابد أن تكون مبنية على النزاهة والموضوعية والحيادية والمهنية. الأمر الذي يسمح لهم بتقييم تحيزاتهم في ميزان إطار أخلاقي قيمي يحقق النزاهة والموضوعية، حتى في الظروف الصعبة.
ويعزز الذكاء العاطفي هذه الثقافة الأخلاقية وما تتضمنه من قيم النزاهة والشفافية. فالتعامل مع الآخرين بصدق واحترام متبادل، يسهم في بناء بيئة عمل إيجابية تشجع على الالتزام بالقيم الأخلاقية والممارسات السليمة.
لذا كان على المراجعين الداخليين تطوير ذواتهم وتحقيق النمو المهني. فالقدرة على التعرف على نقاط قواهم وضعفهم، والدافعية نحو التعلم من التجارب والتكيف مع التحديات يسهم في تعزيز الكفاءة المهنية والارتقاء بالأداء.
وكما أسلفنا فإن تعلم مهارة الذكاء العاطفي ليس بالأمر السهل، ولكنه ممكن من خلال التركيز على الأبعاد الآتية:
1. الوعي بالذات: التعرف على المشاعر في المواقف المختلفة، والتأمل وكل ما من شأنه مساعدتك في التركيز على اللحظة.
2. إدارة الذات: تمارين التنفس العميق، ممارسة الرياضة، الحصول على قسط كافٍ من النوم.
3. الوعي الاجتماعي: الاستماع الفعال، محاولة فهم وجهات النظر المختلفة ومنبعها، وبناء العلاقات.
4. إدارة العلاقات: التواصل والانصات الفعال، حل النزاعات، بناء الثقة.
5. البحث عن الدعم: التحدث مع صديق أو أحد أفراد الأسرة (مع عدم الإفصاح عن المواضيع السرية)، طلب المساعدة المهنية (مثل الكوتشنج).
6. التعلم المستمر: قراءة الكتب والمقالات في هذا المجال، حضور الورش التدريبية.
وكحال جميع المهارات الشخصية، يتطلب الأمر وقتا طويلا لاكتساب مهارة الذكاء العاطفي وصبرا ونفسا طويلا في محاولات متتالية إلى حين إتقانها كمشروع يتطور فيه منحنى التعلم ليصل إلى ذروته مع الوقت!
ختامًا:
الذكاء العاطفي مهارة مهمة تسهم بشكل كبير في نجاح عمل المراجعة الداخلية من خلال بناء علاقات قوية ندية مع أصحاب المصلحة، مبنية على الثقة وتوضيح التوقعات وتقريب وجهات النظر، والانفتاح والتواصل المستمر، وإدارة النزاعات والضغوط، والالتزام الأخلاقي، والتطوير المهني.