ليست المملكة العربية السعودية بمنأى عما يشهده العالم اليوم من تحولات متسارعة تقنية واقتصادية واجتماعية، الأمر الذي يلقي بظلاله على قطاع الأعمال ويشكل تحديات جديدة تتطلب مناهج إدارية مرنة تساعد الشركات على التكيف والتطور. وتعد حوكمة الشركات الاستباقية نهجا إداريا حديثا يعزز قدرة الشركات على الابتكار والتنبؤ بالمخاطر واغتنام الفرص قبل وقوعها، مما يساهم في تحقيق النمو المستدام وبناء ميزة تنافسية راسخة.
يستلزم لتطبيق الحوكمة الاستباقية تهيئة ثقافة المنظمة لتسمح بالتغيير والابتكار وتشجع على التعلم التنظيمي وتتطلع في قراراتها نحو المستقبل ببصيرة وتتنبأ بالتحولات المستقبلية وتعد العدة لتلك التحولات. وهذا يعني تشجيع الموظفين في جميع المستويات على التفكير بإبداع وإدراك التغيرات المحتملة نتيجة التقدم التقني وتداعياته في التشويش (distortion) على نسق الإنتاج والاستهلاك وخلق معايير وقيم تشكل اضطرابات وتغييرات للأوضاع الاعتيادية وما يكتنف ذلك من مخاطر وتحديات قد تعيق استدامة الشركة وتطورها. من أجل ذلك لابد من تمكين الموظفين وعلى وجه الخصوص صناع القرار من إدراك هذه التحولات وتحليلها والتنبؤ بآثارها المحتملة ووضع سيناريوهات مستقبلية لكيفية التعامل معها. فالهدف الأساس هو تغيير أسلوب الفكر التنظيمي لجعل المنظمة متعلمة تبني خبراتها وتجاربها التراكمية، طاردة للجمود، قادرة على الاستكشاف والتكييف مع الافتراضات والتوقعات المستقبلية الجديدة وتقديم أفكار إبداعية قادرة على استيعابها.
مفهوم حوكمة الشركات الاستباقية هو تحول جديد في مفهوم الحوكة، فهي تطرح نهجا أكثر ديناميكية ومرونة وقدرة على التكيف مع متطلبات المستقبل. فبدلا من الهياكل التنظيمية الهرمية البيروقراطية، تستخدم هياكل أكثر مرونة، مثل الهياكل الشبكية أو فرق العمل ذاتية الإدارة، حيث تمكن هذه الهياكل الشركة من الاستجابة السريعة للتغيرات وتشجع الابتكار. بالإضافة إلى ذلك، تذهب بعض المناهج الإدارية الحديثة إلى بناء شراكات استراتيجية أكثر عمقا وعلاقة متينة تشاركية مع الموردين أو العملاء الكبار بحثا عن أوضاع مربحة لجميع الأطراف من أصحاب المصلحة.
ومما لا شك فيه، أن مفهوم حوكمة الشركات الاستباقية ينعكس بشكل مباشر على السياسات والإجراءات – وهي أدوات أساسية في الحوكمة -، فبدلا من الاعتماد على سياسات جامدة، تدفع الحوكمة الاستباقية نحو تبني سياسات مرنة قابلة للتكيف مع التغيرات المستقبلية، مع التركيز على المبادئ العامة بدلا من القواعد التفصيلية.
والأمر كذلك بالنسبة لمصفوفة الصلاحيات، حيث تعزز الحوكمة الاستباقية من تفويض الصلاحيات وتمكين صناع القرار في مختلف المستويات التنظيمية، على صنع قرار ات نشطة ريادية بدلا من ردات فعل آنية لمشكلات مفاجئة. ومع زيادة تفويض الصلاحيات، تؤكد الحوكمة الاستباقية على أهمية المساءلة ووضوح مسؤوليات اتخاذ القرار لتجنب تضارب المصالح أو التأخير.
ولأن المعلومات ركيزة أساسية في عملية صنع القرار، تستثمر الحوكمة الاستباقية في أنظمة معلومات إدارية متطورة لجمع وتحليل المعلومات من مختلف المصادر، مما يسهل عملية التنبؤ بالمستقبل واتخاذ القرار في مختلف المستويات الإدارية. وتبعا، تؤكد على أهمية إدارة المعرفة (knowledge management) وفعاليتها في مشاركة الدروس المستفادة ورؤى المستقبل بين أفراد المنظمة.
وفي هذا السياق يشكل مجلس الإدارة في الشركات السعودية حجر الزاوية في تطبيق مبادئ حوكمة الشركات الاستباقية. فهو من يعول عليه قيادة التحول من خلال وضع استراتيجيات تتوافق مع أهداف رؤية 2030، خاصة في مجالات تنويع مصادر الدخل، ودعم الابتكار وريادة الأعمال، وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة. كما تتضمن المواضيع المطروحة في مجالس الإدارة اليوم اهتماما بالغا لمبادئ الاستدامة البيئية والاجتماعية والحوكمة، وتعمل على دمجها في كافة أنشطة الشركة، مدركة أهمية تحقيق التوازن بين الأهداف الاقتصادية والمسؤولية الاجتماعية. بالإضافة إلى بناء ثقافة الحوكمة الاستباقية في الشركة. وهذا يتطلب من مجالس الإدارة التفكير الاستباقي والابتكاري في جميع مستويات الشركة. وتشجيع قيم التعلم المستمر والتكيف مع التغيير وتشجيع خوض تجارب جديدة ابتكارية.
وإلى جانب مجلس الإدارة، تعد الأنشطة الرقابية الداخلية في الشركة، مثل المراجعة الداخلية والحوكمة وإدارة المخاطر وغيرها، عناصر أساسية في تعزيز حوكمة الشركات الاستباقية من خلال المساهمة في استشراف المستقبل عبر تحديد وتقييم المخاطر الناشئة والتغيرات المستقبلية، وزيادة الشفافية والمساءلة بين أصحاب المصلحة، وتوفير معلومات دقيقة لتحسين اتخاذ القرارات الاستراتيجية، وخلق بيئة للتجربة والتعلم من الأخطاء كآلية للتغذية العكسية، ومراجعة وتحديث أدوات الحوكمة بانتظام لضمان فعاليتها، مما يساعد الشركات على التكيف مع التحديات واغتنام الفرص المستقبلية بفعالية.
تمثّل حوكمة الشركات الاستباقية في المملكة العربية السعودية نهجا مهما في تعزيز ريادة الأعمال وتحقيق النمو المستدام في عصر التغيرات المتسارعة. ومن خلال تضافر جهود مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية والأنشطة الرقابية الداخلية، تستطيع الشركات السعودية أن تطبق هذا النهج، بل من الضروري تطبيقه لتحقق الريادة والاستدامة وتساهم في تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030 وتعزيز مكانتها كقوة اقتصادية عالمية.