الهدف الأساس من إدارة المنظمات هو تحقيق أهدافها بكفاءة وفاعلية، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال نظام للتحكم والسيطرة يضمن أداء إداريا وماليا متميزا وإنتاجية عالية وفي ذات الوقت يتكيف مع المتغيرات ويقلل من المخاطر. وتلعب الإدارات المساندة أدوارا مهمة وإن كانت خفية إذ لا ترتبط مباشرة بالعملية الإنتاجية كما هو الحال في الإدارات المسؤولة عن صناعة القرار الإنتاجي وتقديم الخدمات والتعامل المباشر مع عملاء المنظمة. من أجل ذلك، ينظر للأنشطة الرقابية في المنظمات – والتي تشمل المراجعة الداخلية وإدارة المخاطر والالتزام وإدارة الجودة وغيرها – على أنها مراكز تكلفة لعدم توليدها الإيرادات بشكل مباشر. ويشكل هذا المنظور الضيق تحديا بتجاهله القيمة المضافة وغير الملموسة – في كثير من الأحيان – التي تجلبها هذه الوظائف إلى المنظمة. ففي العالم المتغير الذي نعيشه اليوم وبيئات التشغيل المعقدة، تجاوزت الأنشطة الرقابية دورها التقليدي في الحماية لتصبح عوامل تمكين استراتيجية لا غنى عنها في ضمان نجاح المنظمة واستدامتها.
إن النظر للأنشطة الرقابية على أنها مراكز تكلفة فقط هي نظرة قاصرة وخاطئة لها تداعيات سلبية في تحجيم دورها وخفض التوقعات منها والتقليل من إسهامها في بناء قدرات المنظمة واستدامتها على المدى الطويل! والحقيقة أن أنشطة الرقابة جزء لا يتجزأ من منظومة حوكمة المنظمة، ويقع في صلب ذلك الالتزام بالأنظمة واللوائح وحماية الأصول وإدارة المخاطر. وعلى أن الأنشطة الرقابية لا تولد إيرادات مباشرة، إلا أن مساهماتها في رفع مستوى الموثوقية بالمنظمة وتعاملاتها الداخلية وعلاقاتها الخارجية كبيرة وواضحة لا يمكن تجاهلها والتقليل من شأنها. بل هي ضرورة لا غنى عنها كخط دفاع نظامي وأخلاقي. فلو أخذنا بعين الاعتبار التداعيات المالية المحتملة لعدم الالتزام باللوائح التنظيمية أو خروقات البيانات أو الإخفاقات التشغيلية، أو التفتنا للعقوبات الناتجة والتكاليف القانونية والأضرار الجسيمة التي يمكن أن تلحق بسمعة المنظمة، جميعها تتجاوز النفقات المرتبطة بالحفاظ على أنشطة رقابية قوية. فالأنشطة الرقابية تعمل على التخفيف من المخاطر، بل تجنبها في بعض الأحيان، مما يحمي المنظمة من أية عواقب كارثية محتملة.
وبنظرة اقتصادية فاحصة، نجد أن تكلفة التخفيف من المخاطر غاليا ما تكون أقل بكثير من تكلفة التعامل معها حال وقوعها والخسائر الناتجة عنها. وتفصيلا تعزز الأنشطة الرقابية الكفاءة التشغيلية من خلال تحديد أوجه القصور في العمليات واقتراح التحسينات، الأمر الذي يؤدي إلى توفير التكاليف وتحسين الإنتاجية. علاوة على ذلك ومن خلال الالتزام الثابت بالأنظمة واللوائح والمعايير العالمية، تجنب الأنشطة الرقابية المنظمات الخسائر المالية والمادية والبشرية والمساءلة القانونية.
وفي الوقت ذاته، تقدم الأنشطة الرقابية تصورات قيمة حول التوقعات الحاضرة والمستقبلية لمستوى ونوعية المخاطر التي تواجه المنظمة وبيئة التشغيل الخاصة بها. تستند هذه التصورات، إلى تحليل شامل وعميق ودقيق مستند على البيانات وتقييمات موضوعية، تساعد الإدارة التنفيذية على اتخاذ قرارات استراتيجية مستنيرة رشيدة. فمن خلال تسليط الضوء على المخاطر والفرص المحتملة، تساهم الأنشطة الرقابية في مسار نمو المنظمة وفرض ميزتها التنافسية.
إلى جانب المكاسب المالية الملموسة، تضطلع الأنشطة الرقابية بدور مركزي في غرس ثقافة الحوكمة والالتزام والوعي بالمخاطر والتحسين المستمر والقيم الأخلاقية في كل المنظمة. هذه الثقافة التنظيمية كفيلة بتعزيز الولاء التنظيمي والترابط بين جميع مستويات المنظمة، ما يؤدي إلى تحسين عملية صنع القرار وزيادة مشاركة الموظفين، وفي النهاية، إلى مؤسسة أكثر قوة ومرونة وتعلما وبناء للخبرة والخزن المعرفي.
هذه كانت إطلالة سريعة ولمحة عاجلة عن واقع الأنشطة الرقابية لعلها تفتح النقاش حول أهمية تغيير المنظور الضيق في إطاره البيروقراطي الروتيني باختزالها كمراكز تكلفة وحسب، إلى نظرة أكثر احترافية واحتوائية تشاركية وكجزء فاعل من نسيج المنظمة وشريك استراتيجي يقربها أكثر من الوصول لأهدافها الاستراتيجية. ما يطرح هنا ليس ترفا إداريا أو مجاملة مهنية بل ضرورة تحتم على المنظمات الاهتمام أكثر بهذه الأنشطة وتمكينها إداريا وماليا بمنحها الصلاحيات اللازمة والدعم المالي للقيام بما يجب عليها القيام به على أفضل وجه. فهي أكثر من مركز للتكلفة!